Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

شيزوفرينيا #6

manel-abdelwaheb-schizophrenia2Manel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر


غادرت المنزل و هي تضج نشاطا و حيوية... يسكن الحبور نفسها لأنها ستلتقي صديقتها آسيا... ستصطحبها كي تختار فستان الزفاف.... لطالما تخيلتا معا هذا اليوم بالذات... لطالما تعاهدتا على تقاسم أدق تفاصيل الحياة و ها أنهما تفيان إلى حد اللحظة بالعهد... لم يكن العمل كثيفا في المكتب كاليوم السابق و هو ما خلق لكايا متسعا من الوقت كي تزور مجددا منتدى تعلم اللغة اليونانية... كانت قد نسيت أمر ذاك الذي يسمي نفسه "أوديسيوس" و لكن يبدو أنه لم ينس أمرها... لقد ترك لها رسالة أخرى يقول فيها " يبدو أن رحلتي قد شارفت على الإنتهاء لأن عثوري على ميناء سلام قريب جدا...كوني بخير...كوني جميلة كما بينلوبي..." صمتت لبرهة تحاول أن تفك شيفرة هذه الرسالة الغريبة... تشعر بإنجذاب غريب نحو هذا الذي يراسلها للمرة الثانية تحت إسم مستعار...

قطع رنين جرس باب المكتب حوارها الباطني... لابد أنها آسيا.... أسرعت إلى الباب تستقبل صديقتها... و قد كانت هي الطارقة بالفعل... إتسع ذراعاها إستعدادا لعناق رفيقة الدرب و شقيقة  الروح...تبادلتا الحب و الشوق و المزاح...ليس لكليهما أصدقاء آخرون... لقد ترافقتا منذ الصغر و تعاهدتا على صداقة تدوم إلى الأزل... لم تكن آسيا وحيدة... فقد رافقتها والدتها الخالة عائشة... من البديهي أن ترافق الأم إبنتها و هي تستعد للإحتفال بزفافها... حيّت والدة صديقتها بحرارة و دعتها إلى إحتساء كوب من الشاي و إسترداد أنفاسها قبل إستئناف مشوار الإستعداد لحفل زفاف إبنتها...

إنتهت كايا من أداء واجب الضيافة ثم إنتقلن إلى محل فساتين الأعراس من أجل إختيار الفستان الذي ستطلّ به آسيا في ليلة زفافها... كانت الخيارات كثيرة، فقد عرضت صاحبة المحلّ عدّة فساتين تراوحت بين الكلاسيكي المزوّق و المعاصر البسيط الأنيق... لقد كانت العروس تتعلّق في كلّ مرّة بأحدها و لكن، بمجرّد تجربته يزول ذاك التعلّق لتحلّ محله نظرات الإشمئزاز و دموع الحيرة لأن الفستان لم يرتق إلى مستوى تطلعاتها و إنتظاراتها... و بين هذا و ذاك، كانت السمراء ذات العيون الزرقاء تلاحظ حركات و سكنات الخالة عائشة التي كانت مندفعة بكلّ ما أوتيت من حنان نحو إحتواء تقلبات مزاج إبنتها العروس... ها أنها تشاركها إعجابها بفستان و إمتعاضها من آخر... تتسع إبتسامتها كلّما رأت آسيا تضحك و تمتلئ عيناها دمعا إذا ما لمحت وجه صغيرتها دامعا...

تسعد كايا لرؤية فيض المشاعر هذا... تسعد بقدر حزنها لأنها لم و لن تعيشه لأن أمها إختارت التخلي عنها

و حرمتها بذلك متعة تقاسم تفاصيل حياتها معها... تذكرت أولى خيبات الأمل التي عاشتها بسبب غياب أمها المتعمّد... لقد كانت في الرابعة من عمرها حين دعتها نور رفيقة الحضانة و إبنة الجيران لحضور حفل عيد ميلادها...تذكر جيّدا أن نور كانت محاطة بجميع أفراد عائلتها و على رأسهم أمّها التي لم تدّخر جهدا في جعل يوم إبنتها ذاك مميّزا رغم أن الصغيرة لم تكن تفقه شيئا عن بروتوكولات الإحتفال و متطلباته... لقد أعدت الأم قالب الحلوى بنفسها و إختارت لها و لإبنتها نفس الإطلالة بفستانين أنيقين بلون السماء و تاجين فضيين يوحيان للحاضرين أنهم في حضرة ملكة و أميرتها... و هكذا كانت نور و والدتها فعلا... منذ تلك اللحظة، و رغم صغر سنّها، بدأت كايا تعي حجم مأساتها... إنها تعيش، و ستعيش، حياة بلا أم... حياة بلا إكسير... و كأنها مجبرة على تنفسّ هواء ملوّث عوضا عن الأوكسجين... منذ تلك اللحظة بدأت الفتاة تعرف معنى الفقد... لا تستطيع أن تنكر حجم الحب الذي أغدقه عليها والدها الحبيب بيد أن حرمانها من أمها كان له، و مازال ، الأثر العميق... يكفي أن تلك التي أنجبتها لم تشهد خطواتها الأولى و لا أوّل عهدها بالكلام... حتى أنها لم تجد إجابات عن عدّة تساؤلات أنثوية تراود كلّ أنثى في سنّ المراهقة فلم تكن لديها أم تجيب عن هذه التساؤلات و تزيل عن الأشياء غموضها و إلتباسها... لا تستطيع أن تنسى أنها حين أُعجبت بشاب لأول مرة في حياتها حدّثت والدها عن الأمر في حين تحدّث بقية الفتيات أمهاتهن عن حبهّن الأول... في النهاية يكفيها أن أباها قد تقبّل الأمر برحابة صدر و إستمع إليها بكل إهتمام و لم يبخل عليها بالنصح... و ربما كانت تلك بداية إدراك كلّ منهما أن لا ملجأ لهما غير بعضهما البعض... منذ تلك اللحظة

و والدها يستوعبها.... هو ميناء السلام الذي ترسو عنده سفينة روحها التائهة في هدوء و طمأنينة... تشعر أحيانا أنها تكره أمها و لكن هذا الشعور سرعان ما يزول لأنّ الكره شعور ثقيل جدا... ليس بوسع كاهلها تحمّله...
أعادتها صيحة فرح صادرة عن صديقتها إلى الحاضر... لابدّ أنها عثرت أخيرا على الفستان المناسب.... إنه رائع فعلا... لقد صُنع من قماش أبيض ناصع شفاف مغلّف بطبقة رفيقة من الدونتيل الفضي يزين خصره حزام فضي كذلك تتوسطه فراشة...

و أخيرا عادت إلى المنزل.... لقد كان يومها ممتعا و شاقا في ذات الآن....ممتع لأنها عاشت مع صديقتها اللحظات التي تواعدتا على عيشها معا... و شاق لأنه جعلها تعود بذاكرتها إلى أحداث خالت أنها وارتها الثرى و دفنتها في مقابر النسيان و لكن يبدو أنها كانت مخطئة... لقد كانت تتناسى و حسب دون تنسى فعلا... إن النسيان مهمة صعبة بل مستحيلة أحيانا خاصة إذا تعلّق الأمر بشؤون القلب...
بعد أن إسترقت بعض لحظات الراحة قبل عودة والدها، تذكرت أن عليها أن تعيد ترتيب خزانتها... فهي مخلوق فوضوي يميل إلى تحويل الأماكن إلى شتات كلّما إشتّد شتات روحها و لكنها سرعان ما تعود إلى ترتيب تلك الفوضى كما تفعل مع نفسها تماما...

كانت بصدد ترتيب الأحذية حين عثرت على مغلّف هدية لم تفتح بعد... أزاحت عن المغلّف الغبار لتقرأ ما كتب عليه... لقد ورد المكتوب في لغتين: العربية و اليونانية !!

هل يعقل أن تكون الهدية من طرف أمّها؟ و إذا كان الأمر كذلك ما الذي يفسر أن لا علم لها بها ؟ و من الذي وضعها هنا... في خزانتها ؟...


رواية منال عبد الوهاب الأخضر - رسمة شاكر عكروتي
شيزوفرينيا #6