Notice: Undefined variable: relatedArticlesCount in /home1/datalyz/public_html/tounsia/plugins/content/tags.php on line 149

ركين #44

manel-abdelwaheb-rakinManel Abdelwaheb Lakhdar - منال عبد الوهاب الأخضر


إقتربت سيارتها من مدخل القرية فوجدت نفسها تعاين نفس المشاعر التي تراودها في كلّ مرّة تطأ فيها موطئ هذا المكان البغيض...توقّفت أمام الباب، ينتابها التردد...هل تطرق الباب أم تعود أدراجها نحو السيارة في انتظار خروج أمل التي أتت لاصطحابها بالأساس؟ من المؤكد أن حليمة التي تعلم أنها قادمة ستحاول إقناعها بعدم الرحيل...

و من المؤكد أيضا أنّها لن تتمالك نفسها و ستقع في فخ اللوم و الحال أنها في غنى عنه...لن تلوم حليمة و لن تلوم آسر و لا أمه... حتى أنها لن تلوم رجب الذي دمّر حياتها في البداية حين تزوجها و هي طفلة ثم عاد ليدمرها مرة أخرى لأنه العائق الأول بينها و بين حبيبها آسر...فصلت في الأمر بينها و بين نفسها و قررت النزول من السيارة و كان الأمر كذلك...توقفت لتطرق الباب لكنه فُتح قبل أن تفعل...و ها قد وجدت نفسها وجها لوجه هي و حليمة التي خذلتها كما لم يخذلها أحد...و أخيرا إلتقت عيون حليمة بعيون صغيرتها ركين...

هذه العيون التي تتقن قراءتها جيدا، قد إنطفأت شعلة الحب التي كانت تسكنها لتحلّ محلّها شعلة من نوع آخر...إنّها شعلة التحدي و التمرد...سرعان ما أدركت حليمة أن ركين قد إتخذت قرارها و إنتهى الأمر... إنها راحلة لا محالة...إنها راحلة و لن تهادن لا الزمان و لا المكان..حتى أنّها لن تسامحها لأنها لم تخبرها أن آسر يكون إبن طليقها...بل شجعتها على ذاك الحب المستحيل...فلا داعي إذن لمحاولات الإقناع المحكوم عليها بالفشل سلفا...خيّم الصمت بينهما إلى أن قطعته أمل التي كانت مستعدّة للمغادرة و سعيدة برحيلها رفقة ركين...أمّها بالتبني...لعلّها تدرك أنّ هناك حياة أخرى، حياة أفضل تنتظرها في مكان أفضل...ركضت الصغيرة نحو أمها بالتبني و عانقتها بشدة...سارعت ركين بإنهاء العناق و جذبت طرف حقيبة الصغيرة و بدأت تجرّها نحو الخارج مبتعدة بها و بنفسها عن مكان وقوف حليمة...خاطبتها دون حتى أن تلتفت صوبها...قالت بصوت مرتجف " لا تقلقي بشأن الورشة...سترسل أمي سعاد من يهتم بأمر إزالتها...لا أريد حتى لما تبقى مني أن يترك أثرا في هذا المكان...وداعا"...

ذهبت ركين...و بذهابها إنهارت حليمة...سقطت باكية و بقيت قابعة في عتبة المنزل...لقد آذت ركين أكثر من كلّ الذين مرّوا في حياتها...آذتها دون قصد منها حين لم تنبهها إلى أن ما يجمع بينها و بين آسر لا يمكن أن يكون...و حتى إن كان فإن مصيره الإنهيار لا محالة...لم تنبهها رغم أنّها كانت تعلم أن آسر يكون الإبن البيولوجي لطليقها رجب...ربما لم تستطع إخبارها بالحقيقة و هي تراها سعيدة به و بحبه لها... لا يمكن لركين أن تغفر لها ما فعلته بها و إن كان ذلك دون قصد... إمتطت سيارتها و الألم يكاد يفتك بها...فليس من السهل عليها أن تقطع صلتها بالمرأة التي كانت سندا و ملاذا لها في أصعب أوقاتها و لكنّها تحوّلت فجأة إلى أكثر شخص تسبب في أذيتها و سقم روحها الذي لن يزول...و لكن الغريب في الأمر أنها لم تبك و لن تبكي بعد اليوم...لم يعد هناك من يربطها بقرية كف الصبي سوى قبر أمها الذي ستزوره قبل رحيلها...

و ستكون هذه الزيارة هي الأخيرة....أوقفت السيارة في مكان قريب من المقبرة... أخذت وشاحا من حقيبتها و قنينة ماء و أوصدت أبواب السيارة جيدا بعد أن أوصت أمل أن لا تبرح مكان إلى حين عودتها و قصدت قبر أمها...دلفت المكان و توجهت إلى حيث ترقد أمها بعد أن ألقت التحية على حارس المقبرة... تقدمت نحو قبر أمها و نبضها يكاد يتوقف مع كل خطوة تخطوها إلى الأمام... تلت ما تيسر من القرآن على روح المرحومة...سكبت بعض الماء في المكان المخصص لذلك...حاولت أن تحدث أمها بما يجول في خاطرها و لكنها لم تعثر على الكلمات المناسبة للتعبير عن ما تشعر به من ضياع و شتات... نظرت إلى القبر نظرة وداع ثم قالت " أنا راحلة يا أمي...راحلة إلى الأبد هذه المرة....لن أعود إلى هذه القرية الملعونة مهما كانت الأسباب"...همّت بالرحيل و هي تمنع البكاء من أن يتمكّن منها...فقد عاهدت نفسها أنها لن تبكي مجددا مهما كان الثمن...همّت بالخروج حين قاطعها صوته الأجش و هوّ يقول " وداعا ركين، أتمنى لك غدا أفضل بعيدا عن هذا المكان القبيح"...

شعرت لوهلة أنً بردا شديدا قد لامس جلدها الرقيق...ها قد استوعبت أنه هنا...إنه آسر...ها أنه يخاطبها...للمرة الأخيرة...

لملمت شتات نفسها و إلتفتت لتتفاجأ بأنه لم يكن وحيدا...لقد كان برفقة رجب....والده الذي أصبح قعيدا بعد السقم الذي ألم به حين عرف الحقيقة...أصابتها صدمة أخرستها عن الكلام...إذ هاهي ترى رجب المتعجرف...رمز الجبروت منكسرا،ضعيفا،ذليلا...لكنه على الأقل ليس وحيدا...حاولت أن تتجاوز التوتر الطاغي على المكان...أربكتها نظرة الإعتذار التي رمقها بها رجب...و رغم أنه لم يعد هناك ما يقال، إلا أنها تأبى أن تغادر في كنف الصمت....إستبدلت إبتسامتها الذابلة بضحكة ساخرة و قالت " حمدا لله أننا لسنا أخوين...لقد كانت كذبة سخيفة لا داعي لها...فكل الأسباب مجتمعة تؤدي بنا لا محالة إلى الفراق...فكيف للأضداد أن تجتمع أصلا ؟... أتمنى لك السعادة من كل قلبي"...

أنهت ما قالته بعد عناء تكبدته روحها الجريحة و إستدارت لتستكمل وجهة الخروج لكن صوته سبق حركتها فإستوقفها مرة أخرى...ودّعها قائلا " إن القدر لعنيد بطريقة مجحفة...لو لم يكن كذلك لمنحني فرصة لأهديك باقة توليب أخرى...و لكنه يمنعني من ذلك و إلى الأبد...وداعا ركين...كوني سعيدة من أجلك لأنك تستحقين السعادة"... ما إن أنهى كلامه حتى سارعت خطاها تاركة المكان و الوجع يكاد يقسم ظهرها...حتى أنها فشلت فمن دمعها من الانفجار محتجا عليها...لا يمكن أن لا تبكي و هي تودع حب حياتها الذي إتضح أنه محرّم عليها...غادرت القرية و هي تفكر في الرحلة التي تنتظرها...رحلة إعادة ترميم روحها المحطمة التي خاضت معركة ضارية في الآونة الأخيرة...ربما ستكون الرحلة مضنية و لكن أمامها مستقبل سيكون ملكها و ملك أمل التي تبنتها و تكفلت بحمايتها من تقلبات الحياة....ستسافر،ستعمل بل ستبدع و ستعيش... ربما تكون التجربة التي مرّت بها قاسية و لكنها

ا ستخرج منها أنضج و أقوى و أكثر عنادا من القدر نفسه...فهي ركين الخزافة ابنة الخزافة...هي ركين...ولدت محاربة و سبقى كذلك....


النهاية

منال عبد الوهاب الأخضر

 
ركين #44