الفصل الأول

jeune-fille-attend-amoureuseHiba Mezni - هبة المازني

عندما أحببتك من كل أعماق قلبي غضضت البصر عن جميع الفوارق التي تفصلنا، كنا كالنار و التراب،كالسماء والسراديب الدفينة.. غضضت البصر عن الطريق الطويل الذي يحول بيني و بينك، عن الكيلومترات التي لم يسعني تجاوزها مهما أردت و مهما أحببت ذلك، الكيلومترات التي أقف أمامها مهزومة مكبّلتة لا يسعني سوى الانتظار الطويل ,

كنت أقف عند ناصية الطريق عشية كل سبت وأراك مقبلا نحوي فأضحك وأبتسم و ينشرح قلبي، كان ذلك حدود الخامسة مساءا أي عند الغسق وقبل الغروب، ذلك الطريق الطويل الواسع اتساع البحر، وتقف الأشجار العملاقة في اصرار و شموخ تحرس الطريق كي يمر إلي حبيبي،

وأنا، أنا فقط أبتسم لأنك أنت الحاضر الغائب. يعبث الريح بخصلات شعري فأحس بقشعريرة تدب في جسدي و بصبري يكاد أن ينفذ، وأتوسل للريح أن تحملني إلى حيث حبيبي، .. ولا تحملني

أعيد الكرّة كل أسبوع، جاء الخريف وأصبحت تيارات الريح أقوى و أقوى و صرت أرتدي وشاحا علني أطير أسرع، طار الوشاح ولم أطر أنا، تلبدت السماء بالسحب فحجبت أشعة الشمس التي تنعكس عادة على الطريق فصار الجو كئيبا ، جاء الشتاء و هطلت الأمطار كثيرا, غسلت قلبي وطهرته من الشوائب. وأنا أقف كل أسبوع أفتش عنك بين الغيمات الكبيرة و أراك تأتي فأبتسم وأضحك و أعود من حيث أتيت سعيدة فرحة متيقنة أنك ستأتي يوما وستعانقك يداي و تقبلك عيناي و أغتسل أنا برائحتك و أطرب بصوت ضحكاتك الشجي

_______________________

في نفس اللحظة التي ولدت فيها تم اعدامي، في نفس اللحظة التي تحققت فيها أمنيتي أصابتني اللعنة، لعنتني الأقدار لعنة أبدية هي الأقوى.. لم أستطع الدّنوّ منه، شُدّت يداي بأغلال حديدية لم يتسنى لي الافلات منها مهما ثرت، كنت كالبركان الناشط أغلي وأثور و أحرق نفسي بحممي الملتهبة، وكنت كالثلج باردة الملامح جامدة التعابير رابضة كتمثال من الحجر، كان الجو لطيفا و رطبا، ولم أجد من حلاوة إلا في قراءة أحد الكتب التي أمامي وقتها، اخترت من العناوين أشدها غموضا ورومنسية و أخذت أقلب الكتاب في صمت كصمت المقابر و في خشوع كخشوع الكنائس كأني أصلي لله أن يرحمني من ذلك الاختبار العسير، اتخذت من القضبان الحديدية مجلسا فوق الرمال وتحت السماء، غصت بين الصفحات لأختبأ، لم يسعني سوى الاختباء، الطبيعة حولي في عرس وأنا في مأتم، تحرّكت شفتاي بسرعة جنونية تبتلع الأسطر ابتلاعا وكأنما تتمتم بترنيمات لكسر اللعنة، ولم تستطع يا عشتار أنقذي روحي و وفّري عني هذا العذاب الدفين !

مزّقي هذا القناع الحامل لروحي وضميني إليك أو اعفني من شرب كأس السموم من عناقيد الساديّة! وعينا حبيبي تفرّان منّي.. أجمل المصابيح والنجوم في الكون ترفض ملاقاتي، و تبخل علي ببقعة ضوء، أنا دونكما تحت الشمس في ضلامي غارقة، تمزقني نظراتكما المتككرّرة فأشيحا عني بنوركما أو اغمراني به، لكن لا تتركاني أقف على أبواب الجنّة أعانق السراب، حبيبي كان هائما وكنت أنا في الأفق الذي أمامي وحدي أهيم. شعرت بالضيق أمام اتساع البحر وامتداد الأفق، شعرت بالكدر في حضرة سمفونية الأمواج و رائحة الرمال، ونكست رأسي في الكتاب انتقل من صفحة لأخرى وأبتسم، واسترق النظر لمن اشتاقت عيناي للنظر اليه، كان يخط الرمل خطّا بأثر أقدامه في طريق مستقيم و أخذ يبتعد شيئأ فشيئا أكاد لا أراه، هو الآن نقطة صغيرة بعيدة قرب الموج و فوق الرمال، خلّفت وراءها الأعاصير وأشعلت البراكين و تركت لي طريقا من أثر الأقدام يقودي للجنّة أو النار، يداي ترجفان كعصفور صغير و دمائي تجمدت في العروق و انعدمت حركتي عدى تبعثر شعري بفعل الرياح التي تغازلني و تواسيني، لم أعد أرى الأسطر، لم أعد أستطيع التركيز على غيره، هو ذا أمامي وممنوع عليّ، أبحث في البحر وفي الرمال عن اجابة أو وسيلة للتخلص من لعنتي، و حبيبي .. حبيبي قادم من الأفق، نازل من السماء مقبل إلى هنا، أفلت كالحمامة من القيود وهربت مسرعة إليه  و خالفت القوانين الزجريّة، لم أع من أين جائتني الطاقة لأفعل ذلك لكني فعلت، أجلس أنا والكتاب بقربه، لشدّ ما كان بعيدا عنّي !

حينها فقط أدركت أنني أخطأت التّمني، لم أكن دقيقة في طلبي، ها نحن ذا يجمعنا نفس المكان و بيننا ألف جبل وواد و عدّة جداول وأنهار، بيننا هوة عميقة تتسع للكواكب والنجوم وتبتلعنا، ما كان للطريق الطويل الطويل هذا الوقع ولا هذا المفعول، أحسست بالأسى والغربة، فصل الربيع أجمل الفصول، فصل الربيع آخر فصل في حكايتي، أغلقت الكتاب الذي أحمله بين يديّ وتركت مجلسي وأغلقت أبواب السماء أمام قلبي و أدميت روحي و فجرت في نفسي البراكين و هيجت الأعاصير وابتسمت ابتسامة خفيفة، هبت ريح قوية بعثرت شعري الطويل الأسود وأفلت، أرجعت الكتاب مكانه واحتفضت أنا بكتابي بين طيات روحي، كتابي أنا من دم و نار و من أكاليل الزهور وعناقيد العنب ومن النجوم واللآلأ، كتاب ذو نهاية مفتوحة، كتاب أنا فيه البطلة
__________________________

عدت لأقف عند الطريق, جاء الربيع وأزهرت الأشجار ولم يزل الطريق على حاله, لم يعد الحال حال الأمس. لم تعد السماء تعرفني. كل ما بيني وبين هذا الطريق الان نظرة عير مبالية وألف نظرة من الأسرار

بقلم هبة المازني

الفصل الأول